السيد بدير: أيقونة المسرح والإذاعة وبصمته الخالدة في السينما

في مثل هذا اليوم، 30 أغسطس 1986، نحيي ذكرى رحيل الفنان القدير السيد بدير، أحد أعمدة الفن المصري في القرن العشرين، الذي أثرى المشهد الفني بموهبة متعددة الأوجه بين التمثيل والكتابة والإخراج، ممتدا بعطائه إلى الإذاعة والمسرح والسينما، عاش حياة مليئة بالإنجازات والإبداع، ولم تخل من الجراح، إذ عرف بلقب “أبو الشهيدين” بعد فقدانه نجليه.
ولد السيد بدير في 11 يناير 1915 بقرية “أبو الشقوق” بمحافظة الشرقية، وانتقل مع أسرته إلى القاهرة، حيث التحق بمدرسة رقي المعارف الابتدائية بشبرا، وكان والده يعمل بها مدرسا للتربية البدنية، وخلال المرحلة الثانوية انضم إلى فرقة التمثيل، وبعد حصوله على شهادة البكالوريا عام 1932، التحق بكلية الطب البيطري، لكن شغفه بالفن دفعه إلى ترك الدراسة والانطلاق في عالم الإبداع الفني.
بداية المسيرة الفنية
بدأت مسيرته السينمائية عام 1937 من خلال فيلم “تيتاوونج”، الذي كتبه ومثله، لتتوالى بعدها أعماله في التأليف والتمثيل من أشهرها: “جعلوني مجرمًا”، “تحيا الرجالة”، و”حميدو”، أما في الإخراج، فانطلقت تجربته من المسرح بمسرحية “صاحبة الجلالة” عام 1955، ثم انتقل إلى السينما وقدم عددا من أبرز أعماله كمخرج، منها: “سكر هانم”، “أم رتيبة”، “نصف عذراء”، و”حب وخيانة”.
أدوار مميزة وشخصيات خالدة
في عام 1949، أسند إليه المخرج عباس كامل شخصية “عبدالموجود”، ابن “عبدالرحيم” كبير الرحيمية قبلي، وهو صعيدي بسيط لا يرى أبعد من تحت قدميه، كتبها بدير بإتقان شديد، واشتهر بأدائها أيضا إلى جانب المونولوجست الرائع محمد التابعي، الذي جسد دور الأب “عبدالرحيم”، ونجح الثنائي في تقديم العديد من الأعمال، وتميز بأداء فني فريد حتى ارتبط اسمه بهذه الشخصية في أذهان عشاق السينما المصرية.
مناصب وإنجازات متعددة
تدرج بدير في العديد من المناصب الحكومية، فبدأ عمله كأمين مكتبة قضايا الحكومة بمجلس الدولة، ثم انتقل إلى قسم الدعاية في وزارة الصحة، ولاحقا إلى الإذاعة المصرية، حيث تولى منصب كبير المخرجين، ثم أصبح رئيسا لمؤسسة السينما والمسرح والموسيقى بدرجة وكيل وزارة، وكان أيضا أول من أنشأ استوديو للتسجيل الإذاعي بالقاهرة سمي بـ “استوديو السيد بدير”، وأشرف على فرقة التلفزيون المسرحية.
خلال مشواره الفني، كتب ما يقرب من 200 عمل سينمائي، من أبرزها: “بياعة الخبز”، “فتوات الحسينية”، “شباب امرأة”، و”رصيف نمرة 5″، كما أخرج أكثر من 20 فيلما منها: “الزوجة العذراء”، “كهرمانة”، و”أرملة ليلة الزفاف”.. وكان فيلم “السلخانة” عام 1982 آخر أعماله السينمائية.
لم يقتصر عطاؤه على السينما فحسب؛ بل أبدع في المسرح بأكثر من 400 مسرحية، منها “حبيبي كوكو”، “مراتي قمر صناعي” و”الزوج العاشر”، وترك بصمة قوية في الإذاعة من خلال تأليفه وإخراجه لما يقارب 3000 تمثيلية إذاعية، من أبرزها مسلسل “القيثارة الحزينة” عام 1967.
وعلى الصعيد الشخصي، تزوج الراحل مرتين؛ الأولى من ابنة عمه عام 1937، وأنجب منها ثلاثة أبناء وبنتين، كان أبرزهم العالم المتخصص في الأقمار الصناعية سعيد السيد بدير – والذي توفي عام 1989 في ظروق غامضة، بعد وفاة والده بثلاث سنوات.. أما زواجه الثاني، فكان من الفنانة شريفة فاضل، ورزق منها بابنه “سيد” ملازم أول طيار الذي استشهد في حرب أكتوبر 1973، وخلدت والدته ذكراه بأغنيتها الشهيرة “ابني حبيبي ونور عيني.. بيضربوا بيك المثل”، وهي الفاجعة التي ألقت بظلالها النفسية على السيد بدير، وساهمت في تدهور صحته، وقد عرف بلقب “أبو الشهيدين”، تعبيرا عن المزيج المؤلم من الحزن والفخر الذي عاشه.
نال الفنان الكبير العديد من الجوائز والتكريمات، من بينها وسام الجمهورية 1957، ووسام العلوم والفنون من الطبقة الأولى 1975، وجائزة الدولة للجدارة الفنية عام 1977، وشهادة تقدير وميدالية طلعت حرب من نقابة المهن السينمائية في عيد السينما الأول عام 1982، وشهادة تقدير من الإذاعة المصرية لخدماته الجليلة في مجال الإعلام والكلمة المسموعة عام 1983، بالإضافة إلى وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى عام 1986، وجائزة الدولة التقديرية في الفنون من المجلس الأعلى للثقافة.
رحل عن عالمنا “أبو الشهيدين” في 30 أغسطس 1986 عن عمر ناهز 71 عاما، لكنه ظل حاضرا في ذاكرة الفن المصري بما قدمه من أعمال خالدة، فلم يكن مجرد فنان عابر، بل كان شخصا صادقا ينبض بالحياة، وواحدا من القلائل الذين لم تمحهم السنوات من وجدان الجمهور، بل رسختهم رموزا لا تنسى في تاريخ الفن العربي.