من 23 يوليو 1952 إلى 2025.. كيف تغير الاقتصاد المصري؟

في مثل هذا اليوم 23 يوليو عام 1952، أطاحت حركة الضباط الأحرار بالنظام الملكي، لتؤسس الجمهورية المصرية على أنقاض حكم استمر لعقود تحت مظلة النفوذ البريطاني. لم تكن ثورة 23 يوليو مجرد تحوّل سياسي، بل دشّنت مسارًا اقتصاديًا واجتماعيًا جديدًا شكّل ملامح الدولة المصرية لعقود تالية، حيث أعادت هيكلة الملكية الزراعية، ورفعت شعار العدالة الاجتماعية، وأطلقت مشروعات قومية كبرى كان أبرزها السد العالي.

واليوم، في عام 2025، تقف مصر على مفترق طرق اقتصادي مختلف، يواجه تحديات من نوع آخر تتعلق بزيادة أعباء الدين، وتضخم الأسعار، وتحرير العملة، في ظل طموحات لجذب الاستثمارات وتوسيع دور القطاع الخاص.

العدالة الزراعية.. أول ملامح التحول

بعد أقل من شهرين من الثورة، صدر قانون الإصلاح الزراعي في 9 سبتمبر 1952، ليكون بمثابة اللبنة الأولى في بناء اقتصاد قائم على العدالة الاجتماعية. تم تحديد سقف للملكية الزراعية، وأُعيد توزيع أكثر من مليون فدان على مئات الآلاف من الأسر الفقيرة.

وجرى تأسيس جمعيات الإصلاح الزراعي والتعاونيات الزراعية لتقديم مستلزمات الإنتاج للفلاحين وتدريبهم ومساعدتهم على تسويق المحاصيل، في خطوة مؤسسية غير مسبوقة في تاريخ الريف المصري.

من السد العالي إلى الأمن الغذائي

خلال عقد الستينيات، لم تكن الزراعة مجرد نشاط اقتصادي، بل كانت حجر الزاوية في السياسات القومية.

السد العالي

وجاء مشروع السد العالي تتويجًا لهذا التوجه، إذ مكّن مصر من التحكم في مواردها المائية وزيادة الرقعة الزراعية بـ1.3 مليون فدان، فضلًا عن توليد الكهرباء وتحسين الملاحة النهرية.

هذه الإنجازات رسخت مفهوم التنمية المستقلة القادرة على تعبئة الموارد المحلية لخدمة المجتمع، بعكس ما يُتداول حاليًا من خطط تعتمد بدرجة كبيرة على التمويل الخارجي.

الخصخصة والانفتاح.. مرحلة ما بعد يوليو

مع نهاية السبعينيات، بدأت مصر في التحوّل التدريجي نحو الاقتصاد الحر، بعد أن تبنت سياسات “الانفتاح الاقتصادي” في عهد الرئيس الراحل أنور السادات. تغيرت ملامح الاقتصاد تدريجيًا، وتقلص دور الدولة في الزراعة والصناعة، وتراجع الاستثمار في البنية الزراعية.

تسارعت وتيرة الخصخصة خلال التسعينيات، وأعيد هيكلة الاقتصاد ليصبح أكثر اعتمادًا على القطاع الخاص، والخدمات، والسوق الحرة. غير أن ذلك جاء في أحيان كثيرة على حساب الفئات الأكثر فقرًا، مع تراجع الدعم وارتفاع أسعار السلع الأساسية.

من الدعم إلى التحول الرقمي والتمويل العقاري

منذ 2016، دخلت مصر مرحلة جديدة من الإصلاح الاقتصادي شملت تحرير سعر الصرف، وإلغاء الدعم التدريجي على الطاقة، وتطبيق ضريبة القيمة المضافة. وبدأت الدولة في التحول نحو بنية رقمية وتحفيز الاستثمار العقاري، ومحاولة جذب رؤوس الأموال الأجنبية، خاصة من خلال صندوق مصر السيادي وبرامج الطروحات الحكومية.

غير أن هذه السياسات، رغم أهميتها في تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي، واجهت انتقادات بسبب ارتفاع نسب الفقر وتراجع القوة الشرائية، خاصة بعد جولات متكررة من تعويم الجنيه وارتفاع مستويات الدين العام.

من الزراعة إلى البورصة.. تغيّر مركز الثقل

في الوقت الذي كانت فيه الزراعة تمثل نحو 40% من الناتج المحلي الإجمالي في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، أصبحت مساهمتها لا تتجاوز 11.5% في 2024، وفق بيانات البنك المركزي المصري. وتحول مركز الثقل نحو قطاعات مثل العقارات، الخدمات، والتمويل، ما يعكس تحوّلًا هيكليًا في طبيعة الاقتصاد المصري.

كما أصبحت البورصة، التي تم تأميمها في الستينيات، أداة مركزية في خطط الخصخصة وجذب الاستثمارات، مع الإعلان عن طروحات عامة لعدد من الشركات الحكومية والخاصة، في مقدمتها شركات البتروكيماويات والبنوك والتطوير العقاري.

2025.. عام الحسم الاقتصادي؟

في ظل تحديات التمويل الخارجي، وضغوط خدمة الدين، وتغيرات المشهد الجيوسياسي الإقليمي، تسعى مصر إلى تحقيق نقلة نوعية عبر “وثيقة سياسة ملكية الدولة”، وزيادة دور القطاع الخاص، والتوسع في مشروعات الهيدروجين الأخضر، والتكنولوجيا، والمدن الذكية.

لكن هذه الرؤية تواجه اختبارًا حقيقيًا: كيف يمكن تحقيق النمو دون توسيع الفجوة الاجتماعية؟ وهل تنجح الدولة في إعادة تعريف العدالة الاقتصادية كما فعلت في خمسينيات القرن الماضي، ولكن بأدوات وآليات عصرية؟

إن الاستفادة من التجارب السابقة وتوظيفها في العصر الحديث قد يكون هو المفتاح لتحقيق الاستدامة. تحتاج مصر إلى رؤية شاملة تضمن توزيع الثروة بشكل عادل وتعزز من مشاركة جميع فئات المجتمع في مسيرة التنمية.

وفي النهاية، يبقى الأمل معقودًا على قدرة الدولة والمجتمع على التكيف مع المتغيرات، والعمل معًا لتحقيق مستقبل أفضل لجميع المواطنين.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *